سورة التوبة - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (التوبة)


        


{وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (127)}
اعلم أن هذا نوع آخر من مخازي المنافقين، وهو أنه كلما نزلت سورة مشتملة على ذكر المنافقين وشرح فضائحهم، وسمعوها تأذوا من سماعها، ونظر بعضهم إلى بعض نظراً مخصوصاً دالاً على الطعن في تلك السورة والاستهزاء بها وتحقير شأنها، ويحتمل أن لا يكون ذلك مختصاً بالسورة المشتملة على فضائح المنافقين بل كانوا يستخفون بالقرآن، فكلما سمعوا سورة استهزؤوا بها وطعنوا فيها، وأخذوا في التغامز والتضاحك على سبيل الطعن والهزء، ثم قال بعضهم لبعض: هل يراكم من أحد؟ أي لو رآكم من أحد؟ وهذا فيه وجوه:
الأول: أن ذلك النظر دال على ما في الباطن من الإنكار الشديد والنفرة التامة، فخافوا أن يرى أحد من المسلمين ذلك النظر وتلك الأحوال الدالة على النفاق والكفر، فعند ذلك قالوا: {هَلْ يَرَاكُمْ مِّنْ أَحَدٍ} أي لو رآكم أحد على هذا النظر وهذا الشكل لضركم جداً؟ والثاني: أنهم كانوا إذا سمعوا تلك السورة تأذوا من سماعها، فأرادوا الخروج من المسجد، فقال بعضهم لبعض: {هَلْ يَرَاكُمْ مِّنْ أَحَدٍ} يعني إن رأوكم فلا تخرجوا، إن كان ما رآكم أحد فاخرجوا من المسجد، لتتخلصوا عن هذا الإيذاء.
والثالث: {هَلْ يَرَاكُمْ مِّنْ أَحَدٍ} يمكنكم أن تقولوا نحبه، فوجب علينا الخروج من المسجد.
قال تعالى: {ثُمَّ انصرفوا} يحتمل أن يكون المراد نفس هربهم من مكان الوحي واستماع القرآن، ويجوز أن يراد به، ثم انصرفوا عن استماع القرآن إلى الطعن فيه وإن ثبتوا في مكانهم.
فإن قيل: ما التفاوت بين هذه الآية وبين الآية المتقدمة وهي قوله: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هذه إيمانا}.
قلنا: في تلك الآية حكى عنهم أنهم ذكروا قولهم: {أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هذه إيمانا} وفي هذه الآية حكى عنهم أنهم اكتفوا بنظر بعضهم إلى بعض على سبيل الهزؤ، وطلبوا الفرار.
ثم قال تعالى: {صَرَفَ الله قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ} واحتج أصحابنا به على أنه تعالى صرفهم عن الإيمان وصدهم عنه وهو صحيح فيه، قال ابن عباس رضي الله عنهما: عن كل رشد وخير وهدى، وقال الحسن: صرف الله قلوبهم وطبع عليها بكفرهم، وقال الزجاج: أضلهم الله تعالى، قالت المعتزلة: لو كان تعالى هو الذي صرفهم عن الإيمان فكيف قال: {أنى يُصْرَفُونَ} وكيف عاقبهم على الانصراف عن الإيمان؟ قال القاضي: ظاهر الآية يدل على أن هذا الصرف عقوبة لهم على انصرافهم، والصرف عن الإيمان لا يكون عقوبة، لأنه لو كان كذلك، لكان كما يجوز أن يأمر أنبياءه بإقامة الحدود، يجوز أن يأمرهم بصرف الناس عن الإيمان. وتجويز ذلك يؤدي أن لا يوثق بما جاء به الرسول. ثم قال: هذا الصرف يحتمل وجهين:
أحدهما: أنه تعالى صرف قلوبهم بما أورثهم من الغم والكيد.
الثاني: صرفهم عن الألطاف التي يختص بها من آمن واهتدى.
والجواب: أن هذه الوجوه التي ذكرها القاضي ظاهر أنها متكلفة جداً، وأما الوجه الصحيح الذي يشهد بصحته كل عقل سليم، هو أن الفعل يتوقف على حصول الداعي، وإلا لزم رجحان أحد طرفي الممكن على الآخر لا لمرجح، وهو محال. وحصول ذلك الداعي ليس من العبد وإلا لزم التسلسل، بل هومن الله تعالى. فالعبد إنما يقدم على الكفر إذا حصل في قلبه داعي الكفر، وذلك الحصول من الله تعالى، وإذا حصل ذلك الداعي انصرف ذلك القلب من جانب الإيمان إلى الكفر، فهذا هو المراد من صرف القلب وهو كلام مقرر ببرهان قطعي وهو منطبق على هذا النص، فبلغ في الوضوح إلى أعلى الغايات، ومما بقي من مباحث الآية ما نقل عن محمد بن إسحاق أنه قال: لا تقولوا انصرفنا من الصلاة، فإن قوماً انصرفوا صرف الله قلوبهم، لكن قولوا قد قضينا الصلاة، وكان المقصود منه التفاؤل بترك هذه اللفظة الواردة فيما لا ينبغي، والترغيب في تلك اللفظة الواردة في الخير، فإنه تعالى قال: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِي الأرض وابتغوا مِن فَضْلِ الله} [الجمعة: 10].


{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)}
فيه مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى لما أمر رسوله عليه السلام أن يبلغ في هذه السورة إلى الخلق تكاليف شاقة شديدة صعبة يعسر تحملها، إلا لمن خصه الله تعالى بوجوه التوفيق والكرامة، ختم السورة بما يوجب سهولة تحمل تلك التكاليف، وهو أن هذا الرسول منكم، فكل ما يحصل له من العز والشرف في الدنيا فهو عائد إليكم. وأيضاً فإنه بحال يشق عليه ضرركم وتعظم رغبته في إيصال خير الدنيا والآخرة إليكم، فهو كالطبيب المشفق والأب الرحيم في حقكم، والطبيب المشفق ربما أقدم على علاجات صعبة يعسر تحملها، والأب الرحيم ربما أقدم على تأديبات شاقة، إلا أنه لما عرف أن الطبيب حاذق، وأن الأب مشفق، صارت تلك المعالجات المؤلمة متحملة، وصارت تلك التأديبات جارية مجرى الإحسان. فكذا هاهنا لما عرفتم أنه رسول حق من عند الله، فاقبلوا منه هذه التكاليف الشاقة لتفوزوا بكل خير، ثم قال للرسول عليه السلام: فإن لم يقبلوها بل أعرضوا عنها وتولوا فاتركهم ولا تلتفت إليهم وعول على الله وارجع في جميع أمورك إلى الله {فَقُلْ حَسْبِىَ الله لا إله إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ العرش العظيم} [التوبة: 129] وهذه الخاتمة لهذه السورة جاءت في غاية الحسن ونهاية الكمال.
المسألة الثانية: اعلم أنه تعالى وصف الرسول في هذه الآية بخمسة أنواع من الصفات:
الصفة الأولى: قوله: {مِّنْ أَنفُسِكُمْ} وفي تفسيره وجوه:
الأول: يريد أنه بشر مثلكم كقوله: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إلى رَجُلٍ مّنْهُمْ} [يونس: 2] وقوله: {إِنَّمَا أَنَاْ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ} [فصلت: 6] والمقصود أنه لو كان من جنس الملائكة لصعب الأمر بسببه على الناس، على ما مر تقريره في سورة الأنعام.
والثاني: {مِّنْ أَنفُسِكُمْ} أي من العرب قال ابن عباس: ليس في العرب قبيلة إلا وقد ولدت النبي عليه السلام بسبب الجدات، مضرها وربيعها ويمانيها، فالمضريون والربيعيون هم العدنانية، واليمانيون هم القحطانية ونظيره قوله تعالى: {لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى المؤمنين إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْ أَنفُسِهِمْ} [آل عمران: 164] والمقصود منه ترغيب العرب في نصرته، والقيام بخدمته، كأنه قيل لهم: كل ما يحصل له من الدولة والرفعة في الدنيا فهو سبب لعزكم ولفخركم، لأنه منكم ومن نسبكم.
والثالث: {مِّنْ أَنفُسِكُمْ} خطاب لأهل الحرم، وذلك لأن العرب كانوا يسمون أهل الحرم أهل الله وخاصته، وكانوا يخدمونهم ويقومون بإصلاح مهماتهم فكأنه قيل للعرب: كنتم قبل مقدمه مجدين مجتهدين في خدمة أسلافه وآبائه، فلم تتكاسلون في خدمته مع أنه لا نسبة له في الشرف والرفعة إلى أسلافه؟
والقول الرابع: أن المقصود من ذكر هذه الصفة التنبيه على طهارته، كأنه قيل: هو من عشيرتكم تعرفونه بالصدق والأمانة والعفاف والصيانة، وتعرفون كونه حريصاً على دفع الآفات عنكم وإيصال الخيرات إليكم، وإرسال من هذه حالته وصفته يكون من أعظم نعم الله عليكم. وقرئ {مِّنْ أَنفُسِكُمْ} أي من أشرفكم وأفضلكم، وقيل: هي قراءة رسول الله وفاطمة وعائشة رضي الله عنهما.
الصفة الثانية: قوله تعالى: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} اعلم أن العزيز هو الغالب الشديد، والعزة هي الغلبة والشدة. فإذا وصلت مشقة إلى الإنسان عرف أنه كان عاجزاً عن دفعها إذ لو قدر على دفعها لما قصر في ذلك الدفع، فحيث لم يدفعها، علم أنه كان عاجزاً عن دفعها، وأنها كانت غالبة على الإنسان. فلهذا السبب إذا اشتد على الإنسان شيء قال: عز علي هذا، وأما العنت فيقال: عنت الرجل يعنت عنتاً إذا وقع في مشقة وشدة لا يمكنه الخروج منها، ومنه قوله تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِىَ العنت مِنْكُمْ} [النساء: 25] وقوله: {وَلَوْ شَاءَ الله لأَعْنَتَكُمْ} [البقرة: 220] وقال الفراء: {مَا} في قوله: {مَا عَنِتُّمْ} في موضع رفع، والمعنى: عزيز عليه عنتكم، أي يشق عليه مكروهكم، وأولى المكاره بالدفع مكروه عقاب الله تعالى، وهو إنما أرسل ليدفع هذا المكروه.
والصفة الثالثة: قوله: {حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} والحرص يمتنع أن يكون متعلقاً بذواتهم، بل المراد حريص على إيصال الخيرات إليكم في الدنيا والآخرة.
واعلم أن على هذا التقدير يكون قوله: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} معناه: شديدة معزته عن وصول شيء من آفات الدنيا والآخرة إليكم، وبهذا التقدير لا يحصل التكرار.
قال الفراء: الحريص الشحيح، ومعناه: أنه شحيح عليكم أن تدخلوا النار، وهذا بعيد، لأنه يوجب الخلو عن الفائدة.
والصفة الرابعة والخامسة: قوله: {بالمؤمنين رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} قال ابن عباس رضي الله عنهما: سماه الله تعالى باسمين من أسمائه. بقي هاهنا سؤالان:
السؤال الأول: كيف يكون كذلك، وقد كلفهم في هذه السورة بأنواع من التكاليف الشاقة التي لا يقدر على تحملها إلا الموفق من عند الله تعالى؟
قلنا: قد ضربنا لهذا المعنى مثل الطبيب الحاذق والأب المشفق، والمعنى: أنه إنما فعل بهم ذلك ليتخلصوا من العقاب المؤبد، ويفوزوا بالثواب المؤبد.
السؤال الثاني: لما قال: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} فهذا النسق يوجب أن يقال: رؤوف رحيم بالمؤمنين، فلم ترك هذا النسق وقال: {بالمؤمنين رَءُوفٌ رَّحِيمٌ}.
الجواب: أن قوله: {بالمؤمنين رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} يفيد الحصر بمعنى أنه لا رأفة ولا رحمة له إلا بالمؤمنين.
فأما الكافرون فليس له عليهم رأفة ورحمة، وهذا كالمتمم لقدر ما ورد في هذه السورة من التغليظ كأنه يقول: إني وإن بالغت في هذه السورة في التغليظ إلا أن ذلك التغليظ على الكافرين والمنافقين.
وأما رحمتي ورأفتي فمخصوصة بالمؤمنين فقط، فلهذه الدقيقة عدل على ذلك النسق.


{فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)}
أما قوله: {فَإِن تَوَلَّوْاْ} يريد المشركين والمنافقين. ثم قيل: {تَوَلَّوْاْ} أي أعرضوا عنك. وقيل: تولوا عن طاعة الله تعالى وتصديق الرسول عليه الصلاة والسلام. وقيل: تولوا عن قبول التكاليف الشاقة المذكورة في هذه السورة، وقيل: تولوا عن نصرتك في الجهاد.
واعلم أن المقصود من هذه الآية بيان أن الكفار لو أعرضوا ولم يقبلوا هذه التكاليف، لم يدخل في قلب الرسول حزن ولا أسف، لأن الله حسبه وكافيه في نصره على الأعداء، وفي إيصاله إلى مقامات الآلاء والنعماء {لاَ إله إِلاَّ هُوَ} وإذا كان لا إله إلا هو وجب أن يكون لا مبدئ لشيء من الممكنات ولا محدث لشيء من المحدثات إلا هو، وإذا كان هو الذي أرسلني بهذه الرسالة، وأمرني بهذا التبليغ كانت النصرة عليه والمعونة مرتقبة منه.
ثم قال: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} وهو يفيد الحصر أي لا أتوكل إلا عليه وهو رب العرش العظيم، والسبب في تخصيصه بالذكر أنه كلما كانت الآثار أعظم وأكرم، كان ظهور جلالة المؤثر في العقل والخاطر أعظم، ولما كان أعظم الأجسام هو العرض كان المقصود من ذكره تعظيم جلال الله سبحانه.
فإن قالوا: العرش غير محسوس فلا يعرف وجوده إلا بعد ثبوت الشريعة فكيف يمكن ذكره في معرض شرح عظمة الله تعالى؟
قلنا: وجود العرش أمر مشهور والكفار سمعوه من اليهود والنصارى، ولا يبعد أيضاً أنهم كانوا قد سمعوه من أسلافهم ومن الناس من قرأ قوله: {العظيم} بالرفع ليكون صفة للرب سبحانه.
قال أبو بكر: وهذه القراءة أعجب، لأن جعل العظيم صفة لله تعالى أولى من جعله صفة للعرش، وأيضاً فإن جعلناه صفة للعرش، كان المراد من كونه عظيماً كبر جرمه وعظم حجمه واتساع جوانبه على ما هو مذكور في الأخبار، وإن جعلناه صفة لله سبحانه، كان المراد من العظمة وجوب الوجود والتقديس عن الحجمية والأجزاء والأبعاض، وكمال العلم والقدرة، وكونه منزهاً عن أن يتمثل في الأوهام أو تصل إليه الأفهام.
وقال الحسن: هاتان الآيتان آخر ما أنزل الله من القرآن، وما أنزل بعدهما قرآن.
وقال أبي بن كعب: أحدث القرآن عهد بالله- عز وجل- هاتان الآيتان، وهو قول سعيد بن جبير، ومنهم من يقول: آخر ما أنزل من القرآن قوله تعالى: {واتقوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله} [البقرة: 281].
ونقل عن حذيفة أنه قال: أنتم تسمون هذه السورة بالتوبة، وهي سورة العذاب ما تركتم أحداً إلا نالت منه، والله ما تقرؤن ربعها.
اعلم أن هذه الرواية يجب تكذيبها، لأنا لو جوزنا ذلك لكان ذلك دليلاً على تطرق الزيادة والنقصان إلى القرآن، وذلك يخرجه عن كونه حجة، ولا خفاء أن القول به باطل، والله سبحانه وتعالى أعلم بمراده.
وهذا آخر تفسير هذه السورة، ولله الحمد والشكر.
فرغ المؤلف رحمه الله من تفسيرها في يوم الجمعة الرابع عشر من رمضان سنة إحدى وستمائة والحمد لله وحده والصلاة على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.

24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | 31